جرثومة المعدة.. ضيف سيئ السمعة

د. مجدي الصيرفي

أستاذ الكبد والجهاز الهضمي بقصر العيني ومدير معهد الكبد السابق

نعم. هي ضيف استطاع التعايش مع البشر، منذ ظهور الإنسان الأول، ربما من مائة ألف سنة، و ذلك بأن تأقلم على البيئة شديدة الحمضية داخل المعدة. و بذلك تفرَّدت هذه الجرثومة دونا عن باقي البكتريا التي تتعايش معنا، بإقامة هانئة دون منافس. اسمها العلمي Helicobacter pylori ، ويعبر المقطع الأول من هذا الاسم عن كونها بكتريا ملتوية شكلا و المقطع الثاني عن مقر إقامتها و هو البوابة الفاصلة بين المعدة و الإثنى عشري.   

في الواقع، لا تقتحم هذه الجرثومة خلايا الجسم أبدا، بل تلتصق التصاقاً شديدا بسطح خلايا المعدة حيث الطبقة المخاطية التي تغطي جدار المعدة و تحميه من الحمض القوي الذى يُفرز في تجويف المعدة و الذي يلزم لهضم الطعام، فتحتمي الجرثومة بدورها من هذا الحمض.

تنتقل هذه الجرثومة للإنسان بأن تدخل الفم عن طريق من اثنين: ١) باللعاب، من شخص يحمل الجرثومة إلى شخص سليم، مثل تداول أدوات الطعام بين أفراد الأسرة دون غسلها، ٢) عند تناول طعام أو شراب ملوث بجزيئات من فضلات شخص مصاب بها، مثل أن يعد الطعام شخص لم يبال بالنظافة الشخصية أو أن يشرب المرء ماء لم يتم تطهيره. لذلك تنتشر الجرثومة في المجتمعات التي تعاني من تدني مستوى النظافة الشخصية أو العامة.  أما انتقال الجرثومة بين الناس عن طريق المجالسة أو المصافحة فهو أمر مستبعد إلى حد بعيد، و كذلك لم يثبت انتقالها عن طريق الحيوانات.  ويُعتقد أن أكثر من نصف سكان العالم يحملونها، لكن معظمهم لا يشعرون بوجودها. و بطبيعة الحال، تقل هذه النسبة في المجتمعات المتقدمة، و تزيد في المجتمعات الأقل تقدما، ربما داخل نفس حدود الدولة الواحدة. و تشير الدراسات المصرية عن أن نسبة الإصابة في مصر تزيد قليلا عن الستين بالمائة، مع التسليم بتفاوت النسبة مع السن و في المجتمعات المصرية المختلفة.

ربما يلزم إيضاح خاصية للعدوى بهذه الجرثومة المتفردة: معظم حالات الإصابة تبدأ في الطفولة، حيث لم تنضج بعد سبل مقاومة توطن البكتريا بالمعدة. و بمجرد تمكن البكتريا من التوطن في مقر إقامتها المحبب، تحمي نفسها ببراعة من مناعة الجسم، حتى بعد نضج هذه المناعة. فتظل البكتريا تعيش و تتكاثر حتى تُكتشف في سن ما، صغير أو كبير. و هنا يأتي دور نقل العدوى من الآباء (المصابين منذ طفولتهم) إلى أطفالهم. 

هل تسبب أمراضا؟

في أغلب الحالات تعيش الجرثومة بسلام دون أن تثير أي أعراض أو مضاعفات. لكن أحيانًا تسبب التهابا موجعا بالمعدة بل و ربما تسبب قرحة المعدة أو الاثني عشري، و ذلك في ١٠ بالمائة من المصابين. الفرق بين الالتهاب و القرحة هو عمق الإصابة في جدار المعدة، حيث يكون الالتهاب سطحيا، بينما تخترق القرحة الجدار بعمق متفاوت. و في عدد قليل من هؤلاء المرضى يتطور الحال إلى سرطان في المعدة. و هنا يجدر أن نوضح أن حدوث هذه المضاعفات الشديدة لا تعتمد فحسب على وجود الجرثومة، بل هناك عوامل أخرى هامة يمكن أن تدعم حدوث تلك المتاعب وهي: التدخين و بعض الأدوية (مثل أنواع من المسكنات)، و تعرض الجسم لضغط عصبي أو بدني شديد (مثل قصور في وظائف الجسم الحيوية)، و كذلك سلالة الجرثومة نفسها حيث أن بعض السلالات تحمل جينات عدوانية.

و في ١٥ بالمائة من المصابين تسبب الجرثومة أعراضا بلا قرحة أو غيره، ضجيج بلا طحين، و ذلك في صور مختلفة مثل ألم أو حرقة في أعلى البطن، غثيان أو انتفاخ بعد تناول الطعام، فقدان الشهية أو الشعور بالشبع السريع. أما الإسهال و الإمساك فهما ليسا من أعراض الإصابة بالجرثومة. وكذلك الوهن و فقدان الوزن. 

ليست كلها شرا

بسبب ارتباط الجرثومة بالإصابة بقرحة المعدة و سرطان المعدة، فهناك حرص طبي واضح على القضاء عليها طالما تم اكتشافها، رغم عدم التوصية بالبحث عنها بشكل روتيني لكل الناس. و برغم سمعتها السيئة هذه، هناك دراسات تشير إلى أن وجود جرثومة المعدة قد يكون له بعض الفوائد. فوُجد أن الحاملين لها قد يكونون أقل عرضة للإصابة بالربو والحساسية و بعض الأمراض المناعية، على الأخص لدى الأطفال.  و كذلك في حالة بعض المصابين بها، تحميهم الجرثومة من أعراض ارتجاع المريء.

تشخيص الإصابة بالجرثومة

تشخيص الإصابة بها متيسر، ومن أبرز الطرق: ١) اختبار التنفس: يَستغل هذا الاختبار خاصية الجرثومة في تكسيرها لليوريا، فينتج عن ذلك غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي يمكن كشفه في زفير المريض بتقنية متطورة. ٢) تحليل البراز لاكتشاف أجزاء من الجرثومة. ٣) أثناء إجراء فحص المعدة بالمنظار: حيث تُؤخذ عينة من جدار المعدة لاختبار الجرثومة . ٤) فحص الدم لكشف الأجسام المضادة للجرثومة، و إن كان هذا الاختبار، في حال إيجابيته للجرثومة، غير قادر على التمييز بين إصابة قديمة و إصابة حالية. و فاختبارات الثلاثة الأولى، يمكن لبعض أدوية المعدة و المضادات الحيوية التي يتناولها المريض، أن تحجب الجرثومة.

أما تشخيص وجود علاقة بين الجرثومة و عرض أو أعراض يشكو منها المريض، فهذا يخضع للتحليل الإكلينيكي للأعراض و الحس الطبي السليم للطبيب، و ربما اختفاء الأعراض بعد القضاء على الجرثومة بالأدوية. و إن كان قد لوحظ أن قلة من المرضى تختفي تماما أعراضهم بعد القضاء على الجرثومة و ذلك لتعقيد الجسم البشري. 

 

هل يمكن علاج الجرثومة؟
بالطبع. هذه البكتريا، مثلها مثل كل البكتريا، يمكن قتلها بواسطة المضادات الحيوية. لكنها متفردة أيضا في هذا الشأن: ١) هي تحتاج إلى مضاد حيوي بجرعة كبيرة بل و غالبا، مجموعة مضادات حيوية و لفترة طويلة نسبيا (عشرة أيام على الأقل و أسبوعين على الأكثر). و ذلك بسبب سكنها المتوطن في المعدة و المختبئ بين طياتها من ناحية و بسبب ضرورة القضاء على كل فرد في المستعمرة بحيث لا تُترك إحداها لمناعة الجسم، من ناحية أخرى. ٢) من الضروري إيقاف إفراز حمض المعدة أثناء العلاج - عن طريق تناول الأدوية التي تمنع هذا الإفراز - حيث أن المضادات الحيوية تفشل في أداء وظيفتها في البيئة الحمضية. ٣) لدى الجرثومة مرونة جينية تسمح لها بمقاومة العلاج على الأخص لو استخدمت المضادات الحيوية بجرعات أو أعداد غير مناسبة أو لو استخدمت مضادات حيوية كان المريض قد تعرض لها لسبب أو آخر فتعرفت عليها الجرثومة و اكتسبت مناعة ضدها، بل و ضد كل ما يشبهها من عقاقير. ٤) لا يمكن للطبيب اكتشاف نجاح العلاج في القضاء على الجرثومة بالطرق التقليدية، مثل الأعراض، بل لا بد، إذا لزم مراجعة نجاح العلاج، من إجراء اختبار مرة ثانية للجرثومة. 

أوجز كلامي بأن أؤكد على أن جرثومة المعدة منتشرة بيننا و تتعايش معنا في سلام في أغلب الأحوال، إلا إنها قادرة أحيانا على إظهار جانب شرير فتسبب أعراضا و ربما أمراضا خطيرة، خاصة في وجود عوامل مساعدة لذلك سواء في المريض أو في سلالة الجرثومة.  و يقينا يمكن القضاء عليها بالأدوية إذا استخدمت استخداما رشيدا. و ختاما، الحل الجذري للحد من انتشارها هو رفع مستوى المعيشة والارتقاء بالنظافة العامة و اتباع سلوكا صحيا في كل المجتمعات

شارك هذا المقال

تعليقات المقال